جنود روس في حي القصور - خاص عين المدينة

لم يكن انصراف الكثيرين في الجزء المأهول من أحياء مدينة دير الزور عن أداء صلاة الاستسقاء التي دعا إليها «السيد الرئيس»، حسب ما قال خطيب الجمعة، احتجاجاً أو مقاطعة للدعوة، إنما لامبالاة محضة تجاه قضية يعد الاهتمام بها من شؤون البشر الطبيعيين، ولم يعد أحد في دير الزور، بعد كل هذه السنوات، وهذه الخاتمة، يحسب نفسه في عدادهم.

أثناء الخطبة التي ربطت التقوى بالمطر نصح الخطيب بأن «يجتنب أكل الحرام من السوق»، في نهي غير صريح وشجاع في الوقت ذاته، عن شراء ما يعرضه جنود النظام والميليشيات التابعة له من بضائع سرقوها من القرى والبلدات المهجر أهلها في الريف. تعددت الآراء بين من استساغ ذلك بذريعة أننا أولى بهذه البضائع الرخيصة من سكان اللاذقية وطرطوس وحمص، ومن رفض ذلك لأن شرائها حرام.

في أسواق «التعفيش»، التي امتدت من شارع الوادي على أطراف حي الجورة إلى الشوارع الرئيسية في حي القصور، يميَّز بين ثلاثة مستويات للمسروقات، وثلاثة انتماءات للصوص؛ المستوى الأول للبضائع الثقيلة، سيارات، جرارات، حبوب بكميات كبيرة، غرف نوم واستقبال فخمة، وغير ذلك مما يعرضه قادة وعناصر من تابعي سهيل الحسن فيما يعرف بميليشيا (النمر). والمستوى الثاني للبضائع المتوسطة، برادات وغسالات، وأحياناً رؤوس ماشية مفردة من بقر وأغنام، وعدد زراعية وغيرها لميليشيا (لواء القدس) الفلسطيني وأجهزة المخابرات، وأما المستوى الثالث فهو للبضائع الخفيفة، سجاد وأغطية وأواني مطبخ ودراجات ودجاج وحمام، وغير ذلك مما يعرضه جنود جيش النظام وعناصر ميليشيا (الدفاع الوطني). تعقد الصفقات بجانب السيارات الشاحنة التي تحمل المسروقات دون جدال طويل على الأسعار، ويشعر الطرفان -البائع والمشتري- بالفوز.

يقول أحمد (اسم وهمي) أنه يفرز معارضي النظام في مدينة دير الزور عن مؤيديه من خلال موقفهم من المسروقات، ويرى علامات «الدناءة والخسة بوجه كل واحد يشتري شي يعرف زين أنه منهوب». مثل عشرات الآلاف غيره تحمّل أحمد ظروف الحصار الرهيبة الذي فرضه تنظيم داعش على الجزء الخاضع لسيطرة النظام، ورغم هذا ما يزال محتفظ بموقفه المعارض للنظام بعده «أصل البلاء» كما يقول. ويتذكر أيام الحصار انتظار إسقاط مظلات الأغذية، والصراع على ما تحمله على الأرض، وكيف ينثر الطحين من الأكياس الممزقة، أو يسفك الزيت من عبواته ويسحب بالإسفنج من التراب.

يضيف الجنود الروس بعداً آخر للمشهد في دير الزور اليوم، خاصة حين تلوذ سياراتهم في شوارع فرعية لتعرض معلبات وأرز وسكر وعبوات زيت، جمعوها أو سرقوها من مخصصات وحداتهم الغذائية. يفضل الناس الشراء منهم لجودة ورخص أثمان بضاعتهم. وفي مقهى مفتتح من حديقة منزل اعتادوا أن يستريحوا فيه اقترب طفل من أحدهم يسأله «أنت شيشاني؟» فيهز الجندي رأسه مبتسماً، ويبدو صاحب المقهى مسروراً بزبائنه هؤلاء، لأنهم «أرحم من غيرهم» كما يقول في تلميح جريء وغير معتاد في دير الزور اليوم، لقسوة وهمجية الآخرين.

قبل أيام دهست سيارة ل(لواء القدس) امرأة، وأكملت طريقها دون أن تتوقف ولو للحظة، لم يحاول أحد إيقاف السيارة أو اللحاق بها مروءةََ  كما في السابق، بل لم يصرخ أحد بالشتيمة محتجاً، واكتفى المارة بإسعاف الضحية صامتين. تغيرت نبرات الصوت، ودخلت مفردات كثيرة إلى قاموس اللغة اليومية، وغابت مفردات أخرى، وتغيرت ملامح الوجوه، وبدا الناس أكبر من أعمارهم الحقيقية بسبب الجوع والرعب خلال السنوات السابقة، ومع الاستباحة الكاملة فقدت حتى نظراتهم جسارتها. «ذل عيشة ذل ومهانة» يقول أحمد «احنا مو الدير، وما ظل شي كثير منها بينا، الدير بالناس اللي قالت لا وظلت تقول»، يمثل أحمد قلة قليلة جداً ظلت تربط مأساة دير الزور بإطارها السوري الأوسع، في حين غرقت الأغلبية بالعالم الضيق الذي أحيطت به المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في المدينة، وفيه انحصرت شواغل الناس بالإفلات من الموت جوعاً، وتحاشي شرور عناصر الأمن والميليشيات، تصالحاً معها، أو تجنبها وتحملها بأي شكل كان.