أرامل الشهداء في مخيمات الداخل
عمل في الحصاد وتنظيف الحمامات العامة وانتظار كفالة المنظمات الإنسانية

مخيم أطمة - AFP

كعادتها، تخرج أم علي (57عاماً) كل صباح للعمل في أحد حقول الريف الشمالي لمدينة اعزاز، لتأتي لأحفادها بما يسد رمقهم، بعد أن فقدت ابنها مصطفى في غارة لطيران النظام على مدينة حلب التي كانت تقطنها مع زوجها وولديها مصطفى وعلي، الذي استشهد بعد أخيه بأشهر قليلة، مخلفين لوالدتهما 11 حفيداً أكبرهم لا يتجاوز الثالثة عشرة، بعد أن فقدت أم علي زوجها في نهاية عام 2015 أيضاً بغارة جوية على مدينة حريتان التي نزحوا إليها بعد استشهاد ولديها.

بلهجة بدوية محببة، أمام «كرفانتها» في مخيم الريان في منطقة شمارين التابعة لمدينة اعزاز في الريف الشمالي لحلب، تستقبلك أم علي بالسؤال عن أحوالك وتصنع لك كأساً من الشاي. لا تكترث بالدمامل التي ملأت قدميها ويديها. تواظب على عملها فـ«ليس هناك من يقوم بهذا الحمل عنها» كما تقول، رافعة بصرها إلى السماء وهي ترجو الله أن يديم عليها الصحة لتستطيع إكمال المهمة، وتخبرنا أن هذه الدمامل جاءت «نتيجة القهر وليس العمل».

دفعت أم علي ثمناً مضاعفاً بعد أن فقدت زوجها وولديها وصارت مسؤولة عن عائلة كبيرة ينوء بحملها الرجال، ووجدت نفسها في مخيم الريان بعد أن تنقلت في قرى كثيرة. تشير إلى كرفانتها التي تحميها من برد الشتاء وحر الصيف، كما قالت، وتغص بدمعتها وهي تشكو ظروفها الصعبة، هي المليئة بالعزة والتي أجبرتها الظروف على الشكوى. تقول: «نحنا مو بعازة لا كفالة ولا معونة»، فقد انتظرت الكفالة لسنتين بعد أن وثّقت المنظمات بياناتها وبيانات أحفادها دون جدوى، فاضطرت إلى العمل في الحصاد والقطاف خمس ساعات يومياً بمبلغ 1250 ليرة سورية (2,5 $ تقريباً) لا تكفيها ثمن الخبز أمام الغلاء الفاحش الذي تشهده المنطقة كما تقول.

توزع المنظمات الانسانية بعض المواد الغذائية والمنظفات. ولكن القاطنين في مخيم الريان، بعد أن توقفت منظمة Mercy Corps (فوج الرحمة، الشهيرة بين النازحين باسم ميرسي كور) عن العمل في المخيم منذ خمسة أشهر، لم يروا أي نوع من أنواع المساعدات رغم أن ما كان يصل قليل، ولكن «بحصة بتسند جرة». الأمر الذي أكده ناصر حسين، أحد العاملين في ميرسي كور، الذي قال: «أوقفت المنظمة عملها في الريف الشمالي لحلب منذ خمسة أشهر لأسباب إدارية تتعلق بإلغاء ترخيص المنظمة في تركيا. وهناك حديث عن إعادة ترخيص المنظمة باسم جديد، فالطريق الوحيد لوصول المواد الإغاثية هو من تركيا». كما يقول إن المنظمة في طور دراسة حلول بديلة كتوزيع «قسائم مالية» بدل السلل الغذائية والمنظفات، والتعاقد مع محال تجارية من أجل صرف هذه القسائم، ولكن الأمر ما زال في طور الدراسة ولم تتضح آليته حتى اللحظة.

تقول أم علي إن هناك بعض المواد الغذائية التي تصل إلى المخيم ولكنها لا توزع بشكل عادل في الغالب. وتحكي لنا قصة الفروج حين رفضوا إعطاءها بحجة أن أحد أحفادها بلغ الثالثة عشرة من العمر فليس لها الحق بالمطالبة، لكنها، وبعد الشكوى إلى إدارة المخيم، تمكنت من الحصول على فروجة واحدة لكل أحفادها.

حال أم علي ليست أسوأ من حال الكثيرات من الأرامل اللواتي يقطنّ في المخيمات بعد استشهاد أزواجهن، ليبدأن رحلة شقاء جديدة متجاهلات حزنهن، وباحثات عن لقمة عيش «مغمسة بالدم» كما تقول أم سليم، وهي أم لثلاثة أطفال استشهد زوجها منذ سنوات في إحدى المعارك مع قوات النظام في الريف الجنوبي لحلب، لتبدأ -كما قالت- رحلة تنقلها بين عشر قرى عند أقربائها وأقرباء زوجها وبمساعدات قليلة، ليحط بها الرحال في مخيم رفضت أن نذكر اسمه خوفاً من إدارته: «بعد ما استشهد زوجي الناس عزّونا وراحوا، وكل حدا التهى بولادو وحياتو. ونحنا إلنا الله».

اللوحة ل يوسف عبدلكي

قالت أم سليم إنها راجعت إدارة المخيم أكثر من مرة للعمل في تنظيف الحمامات العامة «التواليتات» فيه، وهو العمل الذي يحق لكل امرأة فقيرة أن تعمله لخمسة عشر يوماً كل ستة أشهر مقابل أجر مادي يساعدها على تحمل نفقات الحياة، فهي لا تستطيع العمل في الحصاد والقطاف لأن أطفالها صغار ولا تعرف أين تتركهم. «بتديّن من عند الدكان حق المازوت للببّور وشوية خضرة، وبس اشتغلت بوفّيه».

أما أم محمد فبعد أن قصفت الطائرة منزلهم واستشهد زوجها، مشت مع أطفالها الثلاثة لعدة أيام لتصل إلى مدينة اعزاز كأرملة شهيد وأم طفل فقد كليته نتيجة القصف، ويحط بها الرحال في مخيم الريان. وهي تقول إن المنظمات رفضت كفالة أولادها لأن أعمارهم تجاوزت 12 سنة، وأكملت: «ولادي قرفوا الدنيا، كل يوم معكرونة. ربطة الخبز بـ200 والباذنجان بـ400 والبندورة بـ500». ساخطة تقول: «يا ريت ما صارت هالثورة ولا طلعنا ولا متنا. ولادي فاقدين كل شي». لتنتقد المنظمات بالقول: «بيصوروا الولاد وبيروحوا بيشحدوا عليهون ونحنا ما بيصرلنا شي».

أم علي ورفيقاتها جزء من المأساة التي خلفتها الحرب، إذ تقدر إحصاءات غير رسمية أن عدد الأرامل تجاوز 200 ألف امرأة، فيما بلغ عدد النازحين في مخيمات الريف الشمالي في منطقة اعزاز وحدها، وفق آخر إحصاء مأخوذ من الوثائق الرسمية لإدارة المخيمات، 147955 نازحاً، يكونون 26039 عائلة تتوزع على تسعة مخيمات.

محمود سراج، مسؤول قسم التعليم والأيتام في هيئة الإغاثة التركية IHH لمخيمات باب السلامة والريف الشمالي، قال لـ«عين المدينة» إن «المنظمة تتكفل ببعض عائلات الأيتام في مخيمات ضاحية سجو ومخيم ضاحية الشهداء القطري في شمارين ومدينة اعزاز وريفها ومارع وريفها. وقد بلغ عدد الأطفال الذين كفلتهم المنظمة حتى الآن 1678 طفلاً». وعن الكفالة أوضح سراج أنها في منظمة IHH تختلف عنها في باقي المنظمات، إذ تبلغ قيمتها 90 ليرة تركية شهرياً لكل طفل يتيم حتى ينتهي من دراسته، وللفتيات حتى سن الزواج، بينما تنتهي الكفالة في باقي المنظمات في سن الثانية عشرة.

ويؤكد سراج أن المنظمة أحصت جميع الأطفال في مخيمات الريف الشمالي ووثقتهم. ويجري التنسيق مع باقي المنظمات، كمنظمة غراس وأفكار والمستقبل والفجر والشهيد وغيرها، من خلال منصة مشتركة لكفالة هؤلاء الأطفال، وستتم في الشهر القادم كفالة 2000 طفل جديد في المخيمات وما حولها.

ووفق آخر الإحصاءات توجد 1800 عائلة من أرامل الشهداء في المخيمات النظامية، وهي مخيمات سجو وضاحية الشهداء والريان والحرمين والإيمان والرسالة والنور. ويحوي مخيم المقاومة الجديد 500 عائلة، كما توجد في العشوائيات 500 عائلة أخرى. ويرى سراج أن العدد يزداد كل يوم، وأن إمكانيات المنظمات غير قادرة على تلبية احتياجات الجميع في الوقت الحالي، فالعدد كبير وطاقات المنظمات محدودة.

أما العائلات التي لم يشملها نظام الكفالة فتقوم المنظمة، بحسب سراج، بتوزيع منح مالية عليها كل ستة أشهر، كان آخرها في نيسان الماضي عندما قامت المنظمة بتوزيع 500 ألف ليرة تركية على 500 عائلة من الأرامل غير مشمولة بنظام الكفالة، في المخيمات والقرى الحدودية التي حُرّرت في الفترة الأخيرة. كما تقوم المنظمات بتوزيع سلة غذائية وسلة منظفات وسلة حفوضات، وللأيتام الأولوية في هذا التوزيع.

أما الأطفال فاقدو الأبوين فيقول سراج إن المنظمة أنشأت دار أيتام لهم في جرابلس بالتعاون مع منظمة أفكار. كما افتتحت في الريحانية  داراً بسعة 1000 طفل فاقدي الأبوين، وهي مدينة متكاملة فيها كل الخدمات.

وعن العوائق والصعوبات يقول سراج إن العديد من المنظمات فقدت الثقة بالكثير من سكان المخيمات نظراً لعمليات التحايل المنتشرة من تزوير البيانات وتقديمها لأكثر من منظمة، فتجد عائلات مكفولة من منظمتين أو أكثر وعائلات غير مكفولة. كما أن هناك الكثير من النساء اللواتي يدعين أنهن أرامل لنكتشف، في حالات كثيرة، أن أزواجهن يعملون في تركيا أو في مناطق أخرى، ليستفدن من نظام الكفالة، أو أنهن مطلقات، ونظام الكفالة لا يدعم هذه الفئة من النساء، فيلجأن إلى تزوير بيانات تثبت موت أزواجهن، ما يعقد عمل المنظمات ويحرم أطفالاً من نظام الكفالة.

يزداد عدد أرامل الشهداء كل يوم، وغالبيتهن يعانين من مصاعب اجتماعية واقتصادية تضاعف من همومهن وآلامهن، بعد أن وجدن أنفسهن وحدهن مسؤولات عن عائلات في ظروف حياتية قاسية، بعد أن قدم أزواجهن حياتهم فداء للثورة والوطن.