أخبار البوكمال وحكاياها
أهل المدينة خائفون من الحشد وصدام الجمل يقاتل بعد أن تركت له داعش مستودعات السلاح

لا تشكل المعارك الدائرة في البوكمال ومحيطها سوى همزة الوصل بين المكانة المراد للمدينة أن تحتلها والتناقضات التي تختزنها؛ فإذا كانت المعارك الأولى فيها قد دارت بعد الإعلان عن سقوط البوكمال بأكثر من أسبوع، فلأن المدينة ومعركة سقوطها لم تعد عقبة في وجه تمدد وامتداد الميليشيات الموالية لإيران في سورية والعراق على جانبي الحدود ، كما أنها لن توقف انهيار التنظيم بشكله القديم، لكنها امتحان أبناء البوكمال الصعب.

يبدو أن سيطرة الحشد الشعبي في العراق على الحدود العراقية السورية، واجتيازها ثم التقدم باتجاه المدينة، هو ما دفع النظام إلى الإعلان المتعجل عن السيطرة على البوكمال، بتاريخ 9 تشرين الثاني، في حين كانت قواته والميليشيات الطائفية التابعة لها تبعد عشرات الكيلومترات عنها، خاصة أن النظام، ومن خلفه إيران، كان قد أمن في وقت سابق معابر برية إلى العراق، في الصحراء الواقعة بين التنف والبوكمال كمعبر السلطاني، بالإضافة إلى نجاحه، ومن خلفه روسيا، بتقديم أوراق اعتماده كمحارب للإرهاب. على أن التحليلات التي منحت البوكمال الأهمية كمعبر ونقطة وصل بين القوات الموالية لإيران على طرفي الحدود، وقبلها الاتهامات المتبادلة بين روسيا وأمريكا، وحلفائهما الإقليمين والمحليين، حول زراعة تنظيم الدولة ثم رعاية وتأمين تفكيفه عبر خروج آمن لعناصره؛ جعل من خبر السيطرة على المدينة بهذه السرعة أمراََ مصدّقاََ، وفي هذا السياق جاء الاتهام الروسي لقوات التحالف بتأمين انسحاب أرتال التنظيم، كما جاء خبر الثغرة التي فتحتها قوات النظام وميليشياته لعناصر التنظيم للخروج من المدينة باتجاه أراضي الجزيرة على الضفة الأخرى من نهر الفرات، أو الصفقة التي "تستكمل سلسلة انسحابات بدأت في القلمون".

وبالنظر إلى الصعوبات التي تقف أمام تدفق الأخبار من البوكمال، وطبيعة المعارك هناك، فإنه من غير الممكن رصد الواقع الميداني في الوقت الفاصل بين إعلان النظام عن سيطرته على المدينة وبدء المعركة الفعلية، وقد مرت ثمانية أيام بينهما، جاءت المعلومات فيها شحيحة، لكنها متناقضة، فمن خبر يفيد بتوجيه الطيران الأمريكي ضربات ضد قوات الحشد الشعبي في الأراضي السورية، إلى آخر يدعي وقوع اشتباكات بين الميليشيات العراقية والسورية بسبب خلاف حصل بينهما، إلى ثالث يفيد بأن النظام مسيطر نارياََ ولكنه تأخر بدخول المدينة بسبب الألغام، إلى رابع يرى بأن البوكمال من حصة فصائل الحر المتمركزة في التنف بقرار أمريكي. أما التقدم الذي أحرزته القوات المهاجمة في الأيام اللاحقة فيعود لتمركزها في سلسلة التلال المحاذية للمدينة من جهة الجنوب، انطلاقا من قرية الهري والسويعية، وسيطرتها على قرى نهرية من جهة الغرب، كالعشائر والحمدان والسكرية، وبذلك تكون قد طوقت المدينة من ثلاث جهات بمشاركة الحشد الشعبي المتواجد في الشرق، ثم التقدم من جهتي الجنوب والغرب. وتفيد مشاهدات بعض الأهالي، ممن عاد إلى المدينة في فترة ما بعد الإعلان عن السيطرة لإخراج بعض الأمتعة أو تفقد المنازل، بأن من بقي من عناصر التنظيم المهاجرين كانوا يستعدون لخوض معركتهم النهائية، على النقيض من أبناء المنطقة الذين كانوا قد استأنفوا حروبهم للتو.

أخبار لكل المهتمين

في موازاة الأخبار التي تفيد بأن قاسم سليماني هو من يقود الميليشيات الشيعية في معركة السيطرة على البوكمال ظهرت أخبار، على المقلب الآخر، تفيد بأن مجلس الشورى هو من يقود قوات التنظيم في معركة الدفاع عن المدينة، في إشارة إعلامية لأهميتها، تغذي تعطش الكثيرين لمعركة مصيرية فيها، وتنتشر إلى جانباها في الظل العديد من الأخبار التي تذهب بأكثر من اتجاه ،وتغذي أكثر من تحليل، وقد وجدت في شخصية صدام الجمل القيادي المحلي المعروف في التنظيم ضالتها، بحيث يساق اسمه في قصص التعامل مع التحالف وبالتالي إخراجه عبر الطيران من المنطقة، ويساق اسمه أيضاََ في انشقاقات باتجاه فصائل الجيش الحر في الصحراء أو في القلمون، أو حتى باتجاه "قوات سوريا الديمقراطية".

ويتكلم البعض عما يمكن أن يكون مقاومة شعبية ظهرت في أحياء مدينة البوكمال الطرفية من جهة النهر على هامش تفكك تنظيم الدولة، وبحسب تلك المعلومات فإن صدام الجمل استطاع أن يجمع حوله 400 مقاتل من شبان المدينة، كثير منهم لم يحملوا السلاح في السابق، عبر التوجه إلى مناطق نزوحهم في الريف، وإثارة حميتهم للدفاع عن المدينة بمعزل عن التنظيم، الذي ترك له حرية التصرف بمستودعات الأسلحة التي تركها، بعد أن كان قد سحب قسماََ من سلاحها الثقيل إلى أراضي الجزيرة لقصف القوات المهاجمة في أطراف البوكمال والأراضي العراقية. أما مجلس الشورى الذي قاد المعركة فماهو إلا قادة محليين في التنظيم، أشهرهم حازم البرغش وعبدالله حاج عثمان، يقاتلون بمجموعات من المهاجرين لا يتجاوزون المائتين، غالبيتهم من الأوزبك، ضمن ما يعرف بكتيبة تبوك، التي كان لها الدور الحاسم في صد هجوم جيش سوريا الجديد على مطار الحمدان، منذ سنة ونصف، بحسب ما يفيد مطلعون.

على أن الحشود العشائرية إلى جانب العقائديين مع الطرفين توضح الشروخ الاجتماعية التي وصلت إليها البنى الأهلية، والمنطق الاستخدامي الذي خضعت له تلك البنى من قبل القوى والأنظمة المحلية والإقليمية.

حروب خفية

إذا كان الكثير من أبناء ديرالزور، ومعهم مراقبون، قد فهموا سيطرة تنظيم الدولة على المحافظة في أحد وجوهه كتتويج لصراع عشائري في الأرياف القريبة، فإن الكثير من أبناء البوكمال فهموا انهيار سيطرة التنظيم في مدينتهم بذات الطريقة، لكن الصراع هذه المرة يخص صراعاََ عشائرياََ عابراََ للحدود، تظلله تنظيمات وإيديولوجيات عابرة للحدود كذلك، وقد ترجموا تلك القناعة في وقت سابق حين راحوا يطلقون على تنظيم الدولة اسم (الدولة السلمانية)، والمقصود بالسلمانية عشيرة السلمان -من بطون قبيلة الدليم- في مدينة القائم العراقية وحولها، تلك العشيرة التي ينتمي إليها مقاتلون كثر في صفوف التنظيم، ويتحكمون بشؤون البوكمال، التي ضمها التنظيم إلى القائم ومدن عراقية أخرى في ما سماه ولاية الفرات، ما وضع أبناءها في موقف ضعيف دون سند اجتماعي لهم؛ في المقابل استشعروا موقفهم المستقبلي الضعيف كذلك أمام زحف الميليشيات التي تضم -بنسبة محدودة- أبناء عشائر عراقية أو سورية، قد توفر الحماية للبيئات العشائرية المحلية التي عاشت تحت سلطة التنظيم، وتترك المدينة لقدرها، أو حتى تستبيحها أو تشارك في استباحتها، الأمر الذي تجلى في دخول قوات من الحشد الشعبي العراقي إلى أطراف المدينة، عبر علاقات القرابة التي تجمع قسماََ من عناصره مع جماعات عشائرية في القرى السورية الحدودية، ثم استخدام تلك المنطقة من قبل الميليشيات الموالية للنظام، وعلى رأسهم حزب الله، لشن هجومها على المدينة، بحسب مايروي الأهالي، وتفيد وقائع تقدم القوات المهاجمة التي لم توفر تلك القرى من الاستباحة.

 وبعيداََ عن التفاهمات الروسية الأمريكية، واقتسام مناطق النفوذ في المنطقة على الأرض وفي السماء، والتصريحات الرسمية من الطرفين، استمر الطيران العراقي في قصف أهداف مدنية على ضفتي الفرات في البوكمال لأشهر قبل المعارك الأخيرة، كما يقوم بذلك حتى الآن، بحسب ما ينقل العديد من أبناء المنطقة، لكن النزوح الفعلي لم يبدأ إلا مع تقدم الحشد الشعبي في القائم، والذي دفع الأهالي، وعناصر التنظيم وعائلاتهم، إلى التوجه نحو قرى الجزيرة عبر سفن نهرية كبيرة (العبارات) استخدمت الحبال في سحبها من إحدى الضفتين إلى الأخرى تجنباََ لرصدها من الطائرات التي استهدفت، في الفترة الماضية، العبارات ذات المحركات، ما أضاف الكثير من الأعباء المادية إلى رحلة النزوح، حتى وصلت كلفة نقل السيارة عبر النهر إلى ربع مليون ليرة سورية  -600 دولار أمريكي تقريباً-.

وبرغم النداءات التي وجهت من البعض إلى أبناء المنطقة بالتزام بيوتهم، أو التوجه إلى قرى وبلدات أشيع أنها ستستثنى من القصف، أو إلى بادية الشامية جنوب نهر الفرات، إلا أن أكثرهم فضلوا العبور إلى الجهة الأخرى، خاصة بعد قصف الطيران مخيمات أهلية صغيرة أقامها نازحون قرب قراهم وبلداتهم الواقعة في مناطق نفوذ الطيران الروسي جنوب الفرات، في بقعة طرفية وبعيدة تنتمي لمحافظة طرفية وبعيدة أصلاً، ليصير الصمت سيد الموقف بين جمهور مؤيدي النظام من أبناء المنطقة، والذين تحمسوا لتقدم النظام وميليشياته تحت شعار "الناس تعبت"، وأن من يرفض سيطرته إما أنه داعشي، أو لا يعيش في سوريا، أو لا يريد العيش فيها.