«ذبيبينة داعش»... دير الزور في ضمير الغائب

توطئة:

بينما كانت مسودات هذا المقال تحت التنقيح، كانت ثمة أخبار عاجلة يجري تناقلها عن هجوم انتحاري منسّق شنّه تنظيم داعش، مستهدفاً تجمّعاً لمدنيين نازحين من دير الزور على طريق الحسكة؛ فقتل العشرات منهم - نحو 50 شهيداً وفق آخر بيان - وسيكون بديهياً التأكيد أن غالبية الضحايا نساء وأطفال ومسنّون، انتهى بهم الحال في هذا «المنفى الوطني» بعد سنوات من الحصار المزدوج، والجوع والمرض، انفجر أخيراً عن حملة قصف جوية متعددة الأطراف، بحيث لم يعودوا يعرفون على التخصيص من يقوم بقتلهم في كل غارة من مئات تحدث يومياً.

هذا أصل المقال قبل المذبحة:

يختصر الموروث الاجتماعي الديري مفهوم العبثية في دلالتها المماحكة حتى حدود الإزعاج والنفور، بل والاشتطاط في الإلحاح دفعاً نحو الغضب، بحكاية لا تحدث فعلاً ولا تحوي نصّاً سوى إعادة بناء تذمّر المتلقي -الهدف- في أسئلة مكرورة؛ تحيل محاولات التملّص منها إلى فخّ لا ينتهي عن «الذبيبينة»، وهي، كما يبدو من وقع اسمها، تصغير تحقيري لـ«ذبابة».

دعكم الآن من محاولة استنتاج ماهيّة الحكاية، فهي لا تقدّم بنية يمكن نقدها أو فهمها، لكنّها في وظيفتها الأولى معرفياً -إذا أردنا تعقيد المسار الاصطلاحي- تفيد بعلاقة سلطة بين الراوي والمتلقي، سلطة ينفي وجودها أية حاجة لموضوع تقوم عليه سرديّة ذات معنى مفيد أو ضار. وفي الإرث المديني لدير الزور -وهو موجود بأصالة عريقة إلى حدّ أن الأرياف الفراتية  تقيم عليه بذاته شرعية تباينها عنه- هناك ميكانيزمات راسخة اجتماعياً للتعامل مع السلطة، تحيل هذه الأخيرة إلى رمزيات ساخرة وماكرة، أيّاً كان مبناها كسلطة، بما فيها تلك العشائرية التي أنتجها المجتمع نفسه.

الحديث عن السلطة في دير الزور راهناً سيقود إلى داعش، وهذا الوجود الشاذ والطارئ للقوّة الحاكمة يثير الإغراء المتسرع، كما يبدو، لإطلاق أحكام قطعيّة عن نشأته وعوامل تطوره وانتشاره. والواقع أنّ في داعش من الإغراءات البحثية ما قد يدفع إلى استسهال إنشاء المقارنات والمطابقات، وتركيبها على مجتمع، يكاد لا يعرف عنها شيئاً، ولا يكترث حتماً لها في إدارة علاقته اليومية مع التنظيم، والتي تقوم على مبدأ بسيط: «حاول ألّا تكون الضحية هذا النهار».

منذ أيّام أثار مقال (نصر النظام وانتصار داعش: العيش على شفير موتين) للكاتب والصحافي اللبناني حازم الأمين، نشرته صحيفة الحياة اللندنية، كثيراً من الجدل والاعتراضات، وتركّزت هذه الاعتراضات على نقطة حاجج فيها الأمين في معظم مقاله استناداً إلى أنّ داعش هو، بصورة ما، استجابة محلية لواقع متوحش فرضته الحرب. ومع أنّ الكاتب اللبناني المؤيد لثورة السوريين ضد الأسد، والمعروف بمعارضته لهيمنة حزب الله، استخدم الضمير «نا» في حديثه عن التنظيم، وهي نقطة تفيد بإعلان انتمائه إلى من يريد تشريح علاقتهم بداعش، إلاّ أن الاستنتاجات التي ساقها في مادته مفرطة في تشخيص التنظيم على أنه منتمٍ إلى الجغرافيا والاجتماع الفراتي، وهذا لم يكن مقبولاً عند كثيرين، ممن عاينوا مباشرة، أو عبر تجارب منقولةٍ من ثقاة، الحياة في المنطقة الشرقية السورية تحت حكم داعش الإرهابي المتوحش.

في الدير، كما في الرقة، وغيرها من المدن والأرياف التي دخلها واحتلها داعش، لم يقدم التنظيم نفسه يوماً على أنه «تمرد» محلي على جهة كانت تسيطر قبله، سواء أكانت نظام الأسد أم الجيش الحر؛ داعش يصوّر وجوده على أنّه «دولة» متعينة بضرورة وجودها لإقامة «الخلافة» وإعادة إحياء التاريخ. والمفارقة المهمة هنا أن الأسانيد الفقهية -السلفية الجهادية والصحوية وخلافها- التي يضع عليها داعش أسس «ضرورته»، لم تكن في يوم من الأيام متداولة في المنطقة حتى بين غلاة المتطرفين دينياً.

وصحيح هنا أنّ داعش هو امتداد تحويري لفكر القاعدة في نسختها العراقية، والتي وجدت أرضاً سهلة للعمل في المنطقة الشرقية، التي جعل منها الأسد ممراً لتنظيم الزرقاوي بعد غزو العراق عام 2003. وهذا التحول في بيئة التديّن بالمنطقة -وإن كان يبدو ظاهراً تحت رقابة مشددة من أجهزة مخابرات الأسد- قد اختلط مع الإرث التعليمي والثقافي المحدث في الجزيرة السورية وغيرها، والذي عملت عليه أنظمة البعث عقوداً لربط دولة الخلافة العربية الإسلامية التاريخية بمحتوى إحياء القومية العربية ورومانسيات الصمود في وجه «المؤامرات الإمبريالية»، التي لا تمثل على خارطة العالم الجيوسياسية سوى ما تصفه أدبيات القاعدة وداعش بـ«المحور الصليبي».

ومع أن فكرة استخدام القاعدة كمقاومة للاحتلال الأمريكي للعراق، وجدت بعض القبول في المنطقة، إلاّ أنّ داعش نشأ فعلياً في العراق، وخلال السنوات الأولى من الثورة السورية، قوبل التنظيم بمقاومة واضحة من القوى المسلحة المحلية، وطرد من دير الزور إلى أن عاد مدججاً بقوة هائلة بعد اجتياحه الموصل؛ وباقي القصة معروف بالطبع.

لنعد إلى الحكاية الديرية العبثية:


يبدو سريعاً في مقال الأمين - وهو ليس انفراداً في هذا السياق على أيّة حال - أن المجتمع قابل لإنتاج رد «إرهابي ودموي» على مؤثر خارجي ينتج فعلاً انتحارياً يحاصر نفسه، وهذا فيه تسرّع وتجنّ على بيئة اعتادت وبوضوح اعتبار داعش مؤامرة أسدية\إيرانية على الثورة. وبصرف النظر عن دقّة هذا التوصيف الشعبي، والذي يجد صداه في كثير من كتابات المعارضة، فهو يشير بوضوح أيضاً إلى اعتبار عمومي يقيّم داعش على أنه قوة أجنبية محتلة تخدم هدفاً معادياً لرغبة المجتمع الأساس في الحرية والديموقراطية، والتي قامت من أجلها الثورة.

لكنّها الحكاية ذاتها، دير الزور مسكونة إرثاً بقناعة أنّها منطقة مظلومة، تحصل على ذات الإجابة عن كل أسئلتها، بما فيها مذابح داعش الشنيعة وسلوكها المتوحش تجاه من ترى فيهم مرتدون لا يوثق بهم فحسب.

نواجه كديريين منذ أربع سنوات معضلة حكايتنا الماكرة ذاتها، ومهما بدا أنّ لدينا فرصاً للتخلص من اتهام «الحاضنة» الطوعية أو المؤقتة فسنعود لنجد السؤال عن داعش «نا» يقفز في وجوهنا، حتى و إن قالت يوميات الحياة في أرض «نا» إنّ دير الزور هي المحافظة التي واجه فيها داعش مقاومة لم تتوقف منذ احتلاله لها.

وفي موازاة هذه المقاربة السهلة والشائعة بين الظلم والفقر، من جهة، والتشدد والتطرف العنيف، من جهة ثانية، هناك دائماً مسار منسي لعمل الميكانيزمات الاجتماعية في إعادة رد الفعل إلى نمط أعرافي يتسم بالثبات المنتظم في حرب طويلة.

وصحيح أنّ فكرة وجود قوة «تقتل» جنود الأسد وشبيحته وأنصاره الإرهابيين الأجانب قد تبدو إغراءً كافياً لقبول مستتر؛ يعمل على موازنة بين ثمن انتظار نتيجة المعركة بين داعش والنظام، وبين ثمن الوقوع تحت حكم داعش مؤقتاً، لكن التنظيم الإرهابي لم يكن هذه القوة التي تقوم بمهمة من اتجاه واحد يمكن مبادلتها بالسكوت «الطوعي» عن مراميه الحقيقية؛ داعش كان آلة ذبح لا تتوقف عن العمل ضد المدنيين في دير الزور والرقة وريف الحسكة، وفي كل مكان ابتلي به.

التفصيل الذي يغيب هنا، هو أنّ هذا المجتمع فشل في إنشاء حالة مواجهة شاملة ضد داعش، لأنّه لم يعد يملك القوة بعد أربعين سنة من حكم تفقير وتهميش، وثلاث سنوات من القصف اليومي، والتهجير الجماعي، وسحق الإرادة، .. وليس لأنّه يرى في داعش تعبيراً عن حاجة وقتية يواجه استحقاقها.

السؤال هنا يتعلق بنمط شائع من التحليل الذاتي لواقع منفصل، إذ ثمة في أدوات الثقافة ما يدفع باتجاه استبطان الآخر وحده في هذه الـ «نا»، حين يتعلق الأمر بحالة نافرة كداعش، حتى في حال مرتبك تقود إليه معلومات غير دقيقة، أو استنتاجات متسرّعة، تدفع إلى تثبيت رؤية حزينة ودرامية بإفراط لواقع يرى أنّه رد فعل هائج على فعل قاتل. وليس هذا مقام بحث النوايا - وإن كنت شخصياً لا أعتزم التشكيك بها- لكنه سؤال الحكاية نفسها في عبثيته المتواصلة:

داعش منك .. أو ليس منك ... هلا تحدثنا عن داعشك؟

لا إجابات هنا، إنها «ذبيبينة» داعش... فقط.