- Home
- مقالات
- رادار المدينة
"ماكينة" صوف.. أمنية خائبة لنازحة من غوطة دمشق
في العام ٢٠١٠ كانت رشا "اسم مستعار" طفلة بعمر عشر سنوات في الصف الخامس الابتدائي، تعيش في مدينة حرستا في الغوطة الشرقية. تذكر احتفالها بعيد ميلادها في شهر كانون الأول من ذلك العام، وتذكر قالب الحلوى الذي صنعته أمها، "تبولة وبطاطا مقلية وجيليه، أمي عزمت كل العيلة كبار وصغار، كنت كتير مبسوطة“.
تذكر رشا ذلك اليوم جيداً بكل تفاصيله وتحتفظ بصورة فوتوغرافية وحيدة منه وهي ما تبقى لها بعد النزوح والتشرد "كل اللي بالصورة ماتوا.. كبار صغار“.
في الصورة التي وضعتها في برواز وعلقتها في محلها، تقف رشا بثوب صوفي أحمر نسجته لها والدتها، إلى جانب والدها الذي قضى بالسرطان بعد والدتها بعامين، في الصورة أيضاً عمتها مع طفليها وقد استشهدوا في مجزرة الكيماوي، وعمُّها وزوجته التي لم يستطيعوا إسعافها تحت القصف فنزفت حتى الموت أثناء وضعها لطفلة ولدت ميتة، أما العم فقد حاول الهرب خارج البلد فاختفى كل أثر له.
بعد قيام الثورة وما تلاها من حرب ونزوح، وهرباً من الأهوال التي شاهدتها في الغوطة، وجدت رشا نفسها في صراع من أجل البقاء فقرّرت أن تأخذ الخيار المعتاد، الزواج. لكن لم يتحقق لها أي من العناصر الطبيعية، فلا حفل زفاف ولا فستان أبيض ولا بيت للزوجية، وأخيراً.. ولا زوج. إذ لم يكن زواجها أكثر من انتقال من بيت أهلها إلى بيت زوجها.. من العيش مع عائلتها في غرفة، إلى العيش مع زوجها في غرفة مع أهله. زواجها الأول لم يدم طويلاً، اعتُقل الزوج بعد ثلاثة أشهر من الزواج، وحين طال اعتقاله ولم تعد الحياة مع عائلته محتملة وفي عمر الخامسة عشرة صارت مطلقة.
لم يكن طلاقها بالأمر اليسير في مجتمع يعطي نفسه الحق بالتنمر على المرأة المطلقة، وفي ظل الفقر والاكتئاب قبلت بسرعة بأول من تقدم لخطبتها، أحد المعارف الذي كانت تناديه ”عمو"، الرجل الذي يكبرها بخمس وعشرين سنة. أنجبت منه طفلاً جعلها ترغب بالحياة لأجله وتسعى لمساعدة زوجها من خلال عملها في المنزل بحياكة الملابس الصوفية.
”أمي علمتني شغل الصوف بسنارة وسنارتين، كنت أشتغل بالبيت وبيع للمحلات وكان في متلي نسوان كتير، بس أصحاب المحلات كانوا يعطونا من الجمل إدنه، ياخدوا شغلنا يبيعوا (هاند ميد) بالدولار بالمالكي وأبو رمانة وبلبنان، ويعطونا قروش“.
اقترحت رشا على زوجها قبل عامين مشروعاً صغيراً، محل "نوفيتيه" تبيع فيه منسوجاتها ومنسوجات صديقاتها من النساء اللواتي تعرفت عليهن خلال عملها في المنزل، فعقدت معهن اتفاقاً، كانت تموِّلهن بالصوف مقابل نسبة من بيع المنتج النهائي طبعاً، بالإضافة لبيع مستلزمات الحياكة والخياطة.
جمع الزوجان واستدانا ما استطاعا من مال من أجل المشروع الصغير في منطقة الطبالة، ”كان المشروع كتير ناجح واليوم اللي فتحت فيه المحل كان أسعد يوم بحياتي، يمكن فرحت فيه مثل فرحتي بإبني، أنا دهنت وعملت الديكور، فصلت الرفوف عند النجار وسميت المحل نسيج الأمل، كنت بيع صوف بسعر الجملة ومحلي كان مشغل عيل مستورة بياخدوا من عندي صوف بالدين وبيشتغلوا بالبيت وأنا بعرضلن شغلن للبيع أحياناً بس باخد حق الصوف“.
في الشهرين الأخيرين ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية ارتفع سعر الصوف، مادة العمل الرئيسية لرشا، من ٨٥٠٠ ليرة للكيلو غرام إلى ١٧ ألف ليرة، وضاعف مالك المحل بدل الإيجار. تجمع رشا منسوجاتها في الكراتين وتستمهله أسبوعاً آخر لجمع ما أمكن من الديون المتفرقة من الزبائن "الناس ما معها، مو لاقية تاكل لتسد ديون". باعت تجهيزات ورشتها الصغيرة "بتراب المصاري.. ماكينة لف الصوف وماكينة الخياطة والكونتوار والميزان“، ولا تعلم ماذا ستفعل في الأيام والأسابيع القادمة لكن "الله بيعين.